الجمعة، 2 أكتوبر 2009

ننفرد بنشر أخر ما كتب الصحفي الكبير مصطفي أمين لن

ننفرد بنشر
أخر ما كتب مصطفي أمين
أم المصريين

بقلم:مصطفي امين
عرفت أم المصريين صفية زغلول فى أول يوم فتحت فيه عينى للحياة . فقد تزوج أبى وأمى فى بيت سعد زغلول ، الذى عرف فيما بعد باسم " بيت الأمة " وولدت – على أمين وأنا – فى هذا البيت وحملتنى صفية زغلول بين يديها ، وةضربت على ظهرى بيدها فصرخت صرختى الأولى ، ولا زلت أصرخ إلى الآن !
وقد عشت فى بيتها سنواتى الاولى حتى أصبح عمرى 13 عاماً وعرفتها عن كثب وأنا طفل وأنا ولد ,انا شاب ، وأنا صاحب جريدة "أخبار اليوم" .
منت أناديها "ياستى" وكنت أنادى سعد زغلول " يا جدى " فقد ربيا أمى وهى طفلة يتيمة الأبوين فى الرابعة من عمرها فلم تعرف أبا سوى سعد ولم تعرف أما سوى صفية زغلول .
وأول صورة أذكرها لصفية زغلول هى صورتها وهى جالسة على يمينة وأمى على يسارة ، وأخى على أمين على يمينها وأنا على يسار أم وكان سعد يضع أمام طبقة طبقاً صغيراً فيه كمية من الجوز المقشور ويسمونة فى مصر "عين الجمل" وعندما كنا ندخل عليه وهو جالس على مائدة الطعام نقبل يده ونقول له "صباخ الخير يا جدى" فيعطى كل واحد منا بعض عين الجمل .. وذات يوم قال لنا : لا تقولو لى صباح الخير يا جدى وانما قولوا الحقيقة .. قولوا صباح الخير يا عين الجمل ومكثنا طوال طفولتنا نحييه على مائدة الإفطار بجملة " صباح الخير يا عين الجمل"! وكان الخادم يحمل الطعام أولاً إلى سعد ، ثم بعد ذلك إلى صفية ولم يحدث مرة واحدة أم جلست صفية فى صدر المائدة وهو منى فى مالطة أو سيشيل أو جبل طارق .. بل حتى بعد أن مات . بقى مقعدة خالياً على رأس المادة إلى أن ماتت صفية زغلول بعد وفاة سعد بعشرين عاماً ! وعلى الرغم من أن صفية زغلول كانت ابنة رئيس وزراء مصر الذى حكم 13 سنة بلا انقطاع فقد كان يعد يعاملها كما يعامل أى فلاح مصرى زوجتة .
روت لى كفيى زغلةل أنها فى يوم زفافها استدعتها أمها وقالت لها بعد انتهاء الفرح . سيأخذك زوجك من بيت أبيك فى باب اللوق إلى بيت زوجك فى غمرة فى عربة حانطور . اجلسى صامتة طوال الطريق . عندما تصل العربة أمام بيت العربي سينزل يعد ويقول لك : تفضلى ! اجلسى فى ماكنك ولا تتحركى ! سيقول لكرى للمرة الثانية : تفضلى ! اجلسى فى مكانك ولا تتحركى ! سيقول لكى فى المرة الثالثة تفضلى ّ عندئذ تنزلين من العربة وتدخلي معه إلى البيت !
وقالت لى صفية انها اتبعت تعليمات أمها . فلما وقفت العربة نزل منها يعد زغلول وقال لها تفضلى فلم تنزل وعندئذ قوجئت صفية بسعد زغلول يتركها ويدير ظهرة ويمشى نجو باب البيت .. وعندئذ وجدت نفسى أقفز من العربة وأجرى خلفة ولازلت منذ ذلك اليوم أجرى خلفه إلى الآن ! ولم يكن سعد يعد زوجتة لكى تكون عيمة . بل أعدها لتكون زوجة شرقية بمعنى الكلمة وعندما بنى بيته فى شارع سعد زغلول فى حى الانشاء بالقادرة بنى"سلاملك" ليستقبل فيه الرجال من باب خاص لهم بينما تدخل السيدات من آخر إلى ثالونات خاصة بهن .
وعلى الرغم من أن صفية زغلول كانت تضع البرقع الأبيض على وجهها . إلا أنها كانت تسافر مع زوجها إلى أوربا كل صيف . وهناك تخلع الحجاب وتمشى سافرة .
وكان الشيخ محمد عبد وقاسم أمين محرر المرأة من أقرب اصدقاء سعد . فكان سعد يدعوهما ليتناولا الغداء أو العشاء فى حضور زوجتة واكنت صفية تتحدث أحياناً مع سعد فى الكتب الفرنسية التى قرأتها وكانت لها مكتبها الخاص بجوار غرفة نومها .
وكانت صفية زغلول ست بيت ممتازة تتحرك بنشاط غريب بين طوابق البيت ومع أنه كان لديها عدد من الخدم إلا أنها لم تكن تتردد أن تمسك بيدها فوطة لتمسح التراب . أو تحمل فى يدها مقشة لتنظيف شرفة البيت . وكانت تحدد يوم الأربعاء لما تطلق عليه "يوم التنفيض" أى يوم التنظيف . وفى هذا اليوم يتشقلب كل شئ فى البيت رأساً على عقب . لينظف الخدم ما تحت الكراسى والمقاعد والدواليب والسجاجيد .
وكانت تحدث خلافات لطيفة بين سعد وصفية فى هذا اليوم . فاما تدخل غرفة نومه وتتعجله أن يرتدى ملابسة وينزل إلى السلاملك حتى تستطيع أن تنظف الغرفة التى يجلس فيها كان سعد يداعبها ويحاول أن يبطئ فى الجلاء عن الغرفة وهى تتعجلة لأنها تعتبر نظافة البيت هى مسألة حياة أو موت!
ومع ذلك كانت تطيعه فى كل يوم من أيام الأسبوع طاعة عمياء . فيما عدا يوم الأربعاء وهو "يوم التنفيض" ! وكان سعد لا يتدخل فى شئون الخدم ! وكانت صفية ترفض أن تسمى الخدم خدما بل تصر أن تسميم "العائلة" وقد تعلمت ذلك من سعد الذى كات يقول دائماً أن خدمه هم جزء من عائلته ويرفض أن يقدم لهم طعاماً يخالف طعامه . بل يصر أن يأكلوا من نفس الطعام الذى يأكله . فإذا جاءت له هدية مانجو مثلاً خرجت صفية بنفسها إلى غرفة الأوفيس وهى الغرفة المجاورة لغرفة الطعام واختارت نصيب السفرجى والطباخ والكمريرة والبواب والعربجى والسايس قبل أن يأكل سعد زغلول من هذه المانجو ! فإذا أكل سعد فراخاً يجب أن يأكل البواب نفس الفراخ . وكانت هناك رابطة عجيبة بين سعد وصفية ومن يخدمونهما فلقد مكث مثلا عم آدم بواباً لبيت سعد لمدة خمسين عاماً !ومكث الحاج أحمد عثمان خادم سعد زعلول الخاص فى خدمته ستين عاماً . ومكث الأسطى أحمد بدران فى بيت الأمة خمسة وثلاثين عاماً وكانو يسمونة "أحدث موظف فى البيت" !
وكانت صفية تكره النساء المتبرجات . وقد تدهش القارئة أن أم المصريين لم تضع "البودرة على وجهها إلى آخر يوم فى حياتها حتى أنها تضع بودرة أو مساحيق يوم زفافعا .. وذلك أن سعد زغلول قال يوماً أنه يكره البودرة ويحب الوجه الطبيعى بلا طلاء !
وإذا أرادت أن تصف فتاة بأنها مؤدبة جداً قالت : أنها لا تشرب القهوة ولا تدخن ولا تضع ساقاً على ساق ! .. ففى ذلك الزمان كان شرب القهور قاصراً على السيدات المتزوجات!
وحدث فى عام 1935 أن كنت أقيم مع أمى فى أمريكات . حيث كان والدى سفيراً هناك وذات يوم وصل أمى خطاب والمظروف مجلل بالسواد والعنوان بخط صفية زغلول . وفزعت أمى عندما فتحت الخطاب فوجدته مجللاً بالسواد فى كل صفحة من صفحاته واعتقدنا ان أحداً من أقرباء الأسرة قد مات وفزعت أمى وارتعشت مفاصلهخا . وإذا بصفية زغلول تقول لها أن احدى بنات شقيقات أم المصررين طلقت من زوجها !
فقد اعتبرت صفية زغلول أن طلاق سيدة فى الأسرة هو حادث جلل ومصاب فادم كالوفاء تماماً ! وكانت شقيقتها الكبرى "زكية هانم" أشبة بأم لها بعد وفاة أمها وكان أسمها "قصاقيش هانم" وهو اسم تركى .
وحدث عندما الانجليز سعد زغلول إلى جزيرة مالطة أن ذهب الدكتور محمود صدقى باشا محافظ العاصمة السابق إلى محطة مصر ليودع سعد والانجليز يحملونة فى قطار مسلح إلى السويس فى طريق إلى مالطة .
وعاد محمود صدقى باشا من المحطة وقال لزوجتة أن سعد زغلول أخطأ لأنه قاد الثورة ضد الانجليز لأن الشبع المصرى لا يستحق الاستقلال وأيدت زكية هانم زوجها فى رأية ضد الثورة واذا بصفية زغلول تقرر مقاطعة اختها الكبرى وترفض أن تتحدث إليها أو تزورها أو تلتقى بها طوال مدة الثورة ! واستمرت هذه المقاطعة سنوات طويلة وكانت صفية تقول : أننى أقاطع كل مصرى يقف ضد الثورة حتى ولو كانت أختى !
وكانت أحياناً تجلس معنا فى غرفتها بالطابق العلوى . وكانت غرفتها إلى جوار السلم . وتحتدم المناقشة ويرتفع صوتها .؟ فإذا سمعت أقدام زوجها تصعد على درجات السلم الرخام وتوقف عن الكلام وقالت هامسة "سعد حضر" ومعنى أن زوجها قد حشر فإنه وحده الذى له حق الكلام فى البيت !
كانت هذه هى صورة صفية زغلول قبل ثورة 1919 وقبل قيام الثورة قال لها سعد زغلول انتى قررت أن أضع – أن أضع رأسى على كفى الأيمن ! قالت له : وضع رأسى على كفك الأيسر! وقبض الأنجليز على سعد زغلول وفى يوم وليلة تبدلت القطة الوديعة الى نمرة مفترسة . السيدة الخجولة أصبحت امرأة جريئة بنت الشعب عدو الانجليز . الزوجة المطيعة أصبحت زعيمة ثائرة!
دق جرس التليفون فى بيتها وتحدث معها على شعراوى باشا وكيل الوفد وقال لها أنه سيدعو أعضاء الوفد فى بيته للاحتجاج على نفى سعد زغلول . فصاحت صفية فيه : لماذا يجتمع الوفد فى بيتك ؟ يجب أن يجتمعوا فى بيت سعد كما كان يحدث فى وجوده وإلا تكون خضعنا لأمر الأنجليز يجب أن تجتمعوا هنا فى نفس البيت . ليعرفوا أنهم إذا كانوا أخذوا سعد زغلول منا . فهو لا يزال معنا فى نفس المكتب وفى نفس البيت .
وجاء أعضاء الوفد جميعاً إلى بيت سعد زغلول واجتمعوا فى نفس مكتب سعد وقالت صية زغلول أنها تريد أن تقابلهم فوقفوا جميعاً فى شرفة السلاملك وفتحت هى باب غرفة الطعام وواربت الباب ووقفت وراءة وحدثتهم بحماس وطالبتهم بالصمود والثبات واشعال نار الثورة فى كل مكان كما اتفق معهم سعد زغلول .
وفى أول يوم لم ير أعضاء الوفد وجه صفيو زغلول فقد كانت مختفية وراء الباب كل ما سمعوه هو صوتها . وكان مليئاً بالقوة والحماس والتحدى مما اشعل فى قلوبهم النار !
وفى اليوم التالى فتحت باب غرفة الطعام وواجهت أعضاء الوفد . ولأول مرة رأوا وجهها . وكانت غير محجبة وتحدثت معهم وقالت لهم تأكدوا أنكم لستم وحدكم . كل البلد معكم ! وفى اليوم الثالث خرجت إلى شرفة السلاملك وخطبت فى الجماهير ودعتهم أن يتحدوا الانجليز وقالت لهم أن الإيمان قادر أن يهزم المدافع والرصاص !
وهكذا فى ثلاث أيام تحولت من "حريم" إلى زعيمة ثورة! واصبحت تكتب المنشور الحماسية ضد الانجليز وتوقعها بإمضاء "صفية زغلول" . ولم أسمعها فى تلك الأيام تتحدث عن شوقها لزوجها . وإنما كانت تتحدث عن شوقها للثورة وانما كانت تتلهف عن "صحة" الثورة ! وبدأت المعارك بين الشعب والجيس البريطانى فى كل مدينة ... وكان أكبر ميدان قتال فى الثورة هو شارع سعد زغلول الذى يقع فى أولة بين سعد والذى أطلق عليه الشعب "بيت الأمة" .. وأمام هذا البيت كانت تجتمع الألوف هاتفة بحياة سعد وسقوط الانجليز فتجئ سيارات الجيس البريطانى المسلحة والجنود الانجليز يحملون البنادق ويطلقون الرصاص على الثائرين ... ويسقط قتلى وجرحى من المصريين ورأيت صفية زغلول وخلفها أمى تنزلان إلى حديقة الدار . وجماهير تحمل القتلى والجرحى إلى حديقة البيت وصفية تغمن عيون القتلى وتقبل أيديهم ثم تتولى تمضيد جراح الجرحى وفى أول يوم كانت صفية تفل ذلك وحدها وبعد 24 شاعة فقط امتلات حديقة البيت بعشرات السيدات المصرييات يقمن بدور الممرضات ويحملن القتلى والجرحى وذات يوم سقط شاب قتيلاً أمام بيت الأمة ولفة الشعب الثائربالعلم المصرى وكان فى تلك الأيام أحمر اليوم وفى وسطة هلال أبيض ونجمة بيضاء وصاح شاب أنه يعرف الشاب الشهيد وأنه يسكن بجوارة فى حارة جانبية ناميش بالسيدة زينب وحمل الشعب جسة الشهيد فى مظاهرة شعبية وثرت أنا وأخى خلف المظارة بغير تفكير فى الاستذان من امنا وكنت أتصور حالة أم الشهيد عندما تر ابنها عائداً إليها وهو جسة هامدة اخترقتها عدة رصاصات وعندما وصلنا إلى بيت الشهيد فوجئنا بسيدة واقفة فى النافذة تذغرد وعرفنا أنها أم الفقيد واقشعرت أجسامنا ونحن نرى أم تزغرد لأن ابنها استشهد من أجل الوطن وعدنا إلى بيت الأمة وروينا لصفية زغلول ما رأيناه فارتدت ملابسها على الفور وصحبتنا معها إلى بيت الشهيد الشاب لاندلها على عنوانه وركبنا عربتها "الحنطور" فلم يكن سعد يملك سيارة فى تلك الأيام . وسارت العربة فى ازقة وحوارى إلى أن وصلت إلى بيت الشهيد وأرتنا صفية زغلول أن ننتظرها فى العربة وصعدت بمفردها إلى الغرفة المتواضعة التى تسكن فيها أم الشهيد فوق السطوح وجلست معها تعزيها وتواسيها وتوهنئها على شجاعتها وتؤكد لها أن ابنها لم يمت لأن الشهداء لا يموتون وأصبح من أهم أعمالها فى سنوات الثورة أن تذهب بنفسها فى عربتها الحنطور إلى بيوت الشهداء تواسى الأمهات وتعزى الزوجات وتقبل الأطفال اليتامى فإذا كان الشهيد من خارج القاهرة كلفت رئيسة لجنة السيدات فى كل مدينة أن تذهب إلى أسرة الشهيد بالنيابة عنها فإذا حضرة الى بيت الامة لشكرها أصرت أن تجلس على يمينها فى الصالون قبل زوجات البشوات وكانت تقول أن كل أم شهيد هى "أميرة" فى دولة البثورة ويجب أن تعامل معاملة الأمراء وعاشت صفية زغلول عشرين عاماً بعد وفاة سعد يوم 23 أغسطس سنة 1927 ودفن سعد فى أول الأمر فى قبر فى حى الإمام الشافعى ومكثت صفية زغلول تقطع يومياً هذه المسافة لمدة 9 سنوات إلى أن قام برلمان منتخب انتخاباً حراً . وأصر على تقبل جثمان سعد من قبرة فى الإمام الشافعى إلى ضرية إمام بيت الأمة . وأقيمت له جنازة شعبية ثانية فى عام 1936 لا تقل روعة ولا ضخامة عن جناتزة الأولى عام 1927 وكانت غرفة نوم صفية تطل على الضريح وكانت إذا استيقظت من نومها اتجهت أول ما تفتح عيناها إلى نافذتها التى تطل على الضريح . وتقرأ الفاتحة على روح الرجل الذى أحبة منذ رأية لأول مرة ليلة فرحها وبعد الظهر ترتدى ملابسها وتذهب إلى القبر وتنشر عليه الزهور والرياحين وتقف خاشعة أمام القبر عشر دقائق وكانها تناجى رجلها بصوت لا يسمعة إلا هو وهو ومكثت ترتدى السواد عشرين عاماً ورفضت أن تخلعة وقالت أن ستخلج السواد يوم يخرج أخر جندى أجنبى من مصرلا ولن تستطيع أن تفى بوعدها لأنها ماتت قبل الجلاء عن مصر بتسع سنوات .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق