على مدى أكثر من عشرين عاما قضاها فاروق حسني وزيراً للثقافة في مصر، كان طبيعيا أن تختلف الآراء حوله وأن ينقسم المثقفون بين مؤيدين ومعارضين لسياساته ومواقفه، خاصة انه تولى منصبه في فترة صعبة شهدت امتداداً للأفكار المتطرفة وفتاوى تحريم الفنون.
كما شهدت موجات من التراجع في ميادين أساسية كالسينما والمسرح قبل أن يتجاوزها الفنانون المصريون في السنوات الأخيرة ويستعيدون أرضاً فقدها المسرح الجاد طويلاً، ويتخطون أزمة السينما إلى الحد الذي يتحول فيه مهرجان عالمي مثل مهرجان فينسيا إلى مظاهرة للسينما المصرية التي عرضت داخل فعاليات المهرجان الرسمية ثلاثة أفلام مرة واحدة.
كما شهدت هذه السنوات انجازات عديدة في مجال الآثار والترجمة وكوارث بحجم حريق مسرح بني سويف وخلافات ودعاوى قضائية حول حرية الفكر وجوائز الدولة .
لكن.. وسط كل هذه الخلافات الطبيعية بين المثقفين والمواقف المتباينة كان هناك موقف واحد لا خلاف عليه، وهو الموقف الذي التزمت فيه وزارة الثقافة بالموقف الذي اجمع عليه المثقفون المصريون من رفض التطبيع مع إسرائيل رغم كل المحاولات والضغوط.
ولهذا لم تكن هناك مفاجأة أن تعارض إسرائيل ترشيح فاروق حسني مديرا لمنظمة اليونسكو، وأن يشن اللوبي الصهيوني في أميركا وأوروبا حملة شعواء عليه، ولم يكن غريبا أن تستمر هذه الحملة حتى بعد أن تدخلت الإدارة المصرية وبعد أن أعلنت إسرائيل وقف الحملة «الرسمية» على المرشح المصري.
مكتفية بالحملة التي لا تهدأ من جانب اللوبي الصهيوني والتي استغلت تصريحاً للوزير المصري في رده على احد نواب مجلس الشعب الذي قال إن هناك كتباً لمؤلفين يهود في مكتبة الإسكندرية تهاجم الإسلام هجوماً مقذعاً، ورد الوزير بأن مثل هذه الكتب غير موجودة، ولو جاءه النائب بها فسيحرقها بنفسه.
وقد حاول الوزير أن يشرح موقفه ولكن الحملة اليهودية تصاعدت. وقدم الوزير اعتذاراً عن الواقعة التي أسييء تأويلها ولكن ذلك لم يوقف الحملة عليه، واتخذ الوزير خطوات اعترض عليها العديد من المثقفين الذين اعتبروها تراجعاً عن الموقف المبدئي من الرفض القاطع للتطبيع مع إسرائيل .
ولم يكن كل ذلك كفيلاً بمنع تصاعد الحملة عليه من اللوبي اليهودي باعتباره «عدواً للسامية وحارقاً للكتب ومعادياً للحريات (!!)»
ولم يكن كل ذلك إلا ستاراً لحقيقة واحدة وهي انه لا اللوبي الصهيوني ولا إسرائيل مستعدون للتسامح في قضية التطبيع .
والرسالة هنا لا تقتصر على فاروق حسني، فإسرائيل أول من يعلم انه حين انحاز لموقف المثقفين المصريين في رفض التطبيع لم يكن يصدر عن موقف شخصي فقط، بل كان يمثل سياسة دولة، وحين تكون هناك فرصة للرد فلا يمكن ان تتركها إسرائيل ولا أن يتهاون في انتهازها اللوبي الصهيوني .
مفهوم أن تقف إسرائيل ضد وجود شخصية عربية على رأس اليونسكو، ومفهوم أيضاً أن تقف الإدارة الأميركية السابقة في عهد بوش نفس الموقف، في ظل سياسة كانت تعادي العرب والمسلمين وتنحاز بالكامل لإسرائيل وتحاول الضغط على مصر ومحاصرة دورها.
لكن غير المفهوم هو موقف الإدارة الأميركية الجديدة .. فبعد كل الجهود التي يبذلها الرئيس الأميركي من أجل تحسين العلاقات بين بلاده وبين العالمين العربي والإسلامي، وبعد أن اختار القاهرة ليوجه منها رسالته التصالحية في اعتراف بدور مصر ومكانتها..
ها هي الإدارة الأميركية الجديدة تتخذ نفس الموقف الذي اتخذته إدارة بوش في معركة اليونسكو، وبدلاً من ان تنتهز فرصة وجود مرشح تتوافق عليه الدول العربية والإسلامية والإفريقية وتمنحه بعض دول أوروبا الأساسية مثل ايطاليا واسبانيا تأييدها رغم وجود أكثر من مرشح أوروبي..
بدلاً من أن تنتهز الفرصة لتجسد التغيير في السياسة الأميركية إذا بها تمارس كل الضغوط الممكنة على الدول الأعضاء في اليونسكو، ويبلغ الأمر بالسفير الجديد الذي اختارته إدارة أوباما للمنظمة العالمية أن يلجأ للتهديد والوعيد مع الإغراءات والرشاوى لمحاربة المرشح المصري .
ومهما كانت الأسباب التي تسوقها إدارة أوباما لهذا الموقف، فإن مصداقية الرئيس الأميركي وحديثه عن سياسة جديدة تنهي العداء والكراهية مع العالمين العربي والإسلامي قد تضررت كثيراً، والانحناء أمام النفوذ الصهيوني لابد أن يترك آثاره خاصة ان الإدارة الأميركية كان يمكنها أن تكتفي بموقف محايد بدلاً من أن تقاتل المعركة ضد المرشح المصري وكأنها معركتها هي.
وكأنها تريد أن تعيد إلى الذاكرة موقف سابق وقفته الإدارة الأميركية ( الديمقراطية يومها أيضا) من إعادة ترشيح الدكتور بطرس غالي أميناً للأمم المتحدة لولاية ثانية عقاباً له على تقريره عن مذبحة قانا الذي أدان فيه إسرائيل إدانة كاملة .
دائما إسرائيل، ومعها الفيتو الأميركي. حتى ولو كان ذلك ضد المصالح الأميركية نفسها، وحتى لو كان الرئيس الأميركي يسعى للمصالحة مع العرب والمسلمين . وأيا كانت نتائج المعركة حول اليونسكو فإن الخاسر الأساسي فيها لن يكون هذا المرشح أو ذاك، بل سيكون هو الإدارة الأميركية التي رفعت شعارات المصالحة ثم قادت الحملة عليها حتى لا تتحول إلى واقع !!
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)


ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق